الصحة النفسية في بيئة العمل: نموذج وحدة العافية النفسية في الدفاع المدني السوري
"
مع تطور المجتمعات الحديثة، أصبحت الصحة النفسية أحد المحاور الأساسية التي تُبنى عليها استدامة أي بيئة عمل، إذ لم يعد يُنظر إلى الصحة النفسية كمجرد شيء ثانوي في حياة العاملين، بل هي عامل رئيسي يؤثر في الأداء، الإبداع، والاستمرارية، وفي ظل الظروف الحالية التي تشهدها سوريا من أزمات إنسانية وحرب مستمرة، تزداد المتاعب النفسية التي تواجهه العاملين في المؤسسات الإنسانية والإغاثية
الصحة النفسية في بيئة العمل: أهمية ودور المؤسسات
تُظهر الدراسات الحديثة أن الصحة النفسية في بيئة العمل تؤثر بشكل مباشر على الأداء الوظيفي والقدرة على الإبداع والاستمرارية، إذ أن الأفراد الذين يتمتعون بصحة نفسية جيدة يكونون أكثر إنتاجية، وأقل عرضة للإصابة بالإرهاق المهني أو الغياب المتكرر، ولذل فإن المؤسسات التي تدعم الصحة النفسية لموظفيها تُسهم في خلق بيئة عمل إيجابية تُحفز العاملين على تقديم أفضل ما لديهم.
وبات تطوير برامج للعافية النفسية ودعم الصحة النفسية للموظفين خطوة أساسية وضرورة خاصة للمؤسسات الإنسانية وأجهزة الحماية المدنية العاملة في بيئات الحروب والظروف الاستثنائية.
الوحدة النفسية في الدفاع المدني السوري: عام من العناية
أنشأت مؤسسة الدفاع المدني السوري وحدة العافية النفسية قبل عام، لتكون استجابة عملية ومباشرة لاحتياجات العاملين والمتطوعين في بيئة عمل تتطلب مجهودات جسمية ونفسية كبيرة، ومنذ تأسيسها كان هدف الوحدة تعزيز الصحة النفسية للموظفين والمتطوعين الذين يعملون في بيئات مليئة بالتحديات والمشقات.
يعمل متطوعوا الدفاع المدني السوري في أجواء استثنائية للغاية، حيث تواجههم مخاطر الاستهداف الممنهج من قبل نظام الأسد وروسيا أثناء قيامهم بواجبهم الإنساني في إنقاذ الأرواح ، إضافة للتحديات التي تواجههم أثناء الاستجابة للكوارث والحوادث بشكل يومي، ما يجعل الضغط النفسي جزءاً من يومياتهم، هذا التحدي المستمر يُنتج تأثيرات قد تؤدي إلى الإرهاق المهني، القلق، وحتى مشكلات نفسية أعمق إذا لم تتم معالجتها بالشكل الصحيح، وهنا تأتي أهمية وحدة العافية النفسية، التي تتطلع إلى بناء بيئة عمل داعمة نفسياً، توفر للعاملين وسائل التعامل مع الضغوطات والمتاعب النفسية بشكل علمي ومنهجي وملائم.
الصحة النفسية في الدفاع المدني السوري: بين التحديات والإنجازات
يواجه العاملون في الدفاع المدني السوري تحديات نفسية كبيرة بسبب طبيعة عملهم الذي يرتبط بشكل وثيق بالحوادث الطارئة والظروف الكارثية، فكل عملية إنقاذ أو تعامل مع حادث، تُشكل تجربة نفسية قد تترك آثاراً على المدى الطويل. لذا فإن دعم الصحة النفسية لهؤلاء الأفراد لا يقل أهمية عن تقديم الدعم المادي أو التدريب المهني.
منذ تأسيسها، قامت وحدة العافية النفسية بتنفيذ العديد من البرامج والمبادرات التي تهدف إلى تعزيز الصحة النفسية. من بين هذه المبادرات تنظيم جلسات دعم نفسي فردي وجماعي، ورش عمل لزيادة وتعزيز الوعي النفسي، بالإضافة إلى توفير الأدوات اللازمة للعاملين لمساعدتهم على التعامل مع ضغوطات العمل.
خلال العام الأول من عمر الوحدة، تم تنفيذ العديد من الأنشطة التي ساعدت في تحسين الحالة النفسية للموظفين والمتطوعين. وقد استفاد أكثر من 700 متطوع من هذه الأنشطة، ما يُظهر الأثر الكبير الذي أحدثته هذه البرامج في تحسين بيئة العمل.
كما أصدرت الوحدة عدة أدلة ومواد داعمة في العافية النفسية المتعلقة ببيئة العمل.
برامج الصحة النفسية: من التثقيف إلى الدعم العملي
من بين الأنشطة التي نفذتها وحدة العافية النفسية برامج التثقيف النفسي التي تستهدف تقديم أدوات عملية تساعد العاملين على فهم تأثيرات الضغط النفسي وكيفية التعامل معها. تتضمن هذه البرامج ورش عمل: المساندة النفسية، تدبير الضغوط، تقنيات التهدئة والاستقرار، والتعامل مع الصدمات.
كما إن الدعم النفسي المباشر كان جزءاً أساسياً من عمل الوحدة حيث تم توفير استشارات نفسية فردية للموظفين والمتطوعين الذين يواجهون مشكلات نفسية أو يعانون من آثار الصدمات النفسية، وهذا النوع من الدعم الشخصي يُعد عنصراً مهماً في بناء الثقة وتعزيز الشعور بالعافية النفسية.
الصحة النفسية في بيئات العمل: تحديات عالمية وحلول محلية
على الرغم من أن أهمية الصحة النفسية في بيئات العمل أصبحت موضع اهتمام عالمي، إلا أن تطبيق هذه المبادئ في المؤسسات المحلية، خصوصاً في بيئات العمل السورية، يواجه تحديات كبيرة، تعقيدات العمل في ظروف الطوارئ، وعدم توفر الموارد الكافية في بعض الأحيان، تجعل من الصعب تنفيذ برامج شاملة ومتكاملة للصحة النفسية.
ومع ذلك، كانت تجربة الدفاع المدني السوري، من خلال وحدة العافية النفسية، مثالاً على كيفية التعامل مع هذه التحديات، فقد أظهرت الوحدة قدرة على التكيف مع الاحتياجات المحلية والظروف الصعبة من خلال برامج مرنة تهدف إلى تقديم الدعم النفسي الملائم للعاملين، ومن بين هذه البرامج استخدام الأنشطة الرياضية والفنية كوسائل لتعزيز الصحة النفسية، حيث أظهرت الفعاليات مثل مباريات كرة القدم والسباحة ومعارض الأشغال اليدوية قدرتها على تخفيف التوتر وتعزيز الروح الجماعية بين الموظفين.
العودة إلى العمل بعد التعافي: بناء بيئات داعمة
أحد التحديات التي تواجه العديد من العاملين في بيئات الطوارئ هو كيفية العودة إلى العمل بعد المرور بتجربة نفسية صعبة، وهنا يأتي دور المؤسسات في بناء بيئات عمل داعمة تساعد الأفراد على استعادة توازنهم وانسجامهم النفسي والجسمي.
وفي الدفاع المدني السوري، كانت هذه العودة ممكنة من خلال الدعم المتواصل الذي تقدمه وحدة العافية النفسية.
تُظهر الدراسات أن بناء بيئة عمل داعمة نفسياً تُسهم في تقليل مخاطر الانتكاسات النفسية، وزيادة قدرة الأفراد على الاستمرار في العمل بفعالية. في هذا السياق تسعى وحدة العافية النفسية إلى تقديم مساحات آمنة للعاملين للتعبير عن مشاعرهم ومناقشة تجاربهم بشكل مفتوح.
التوصيات المستقبلية: نحو بيئات عمل صحية ومستدامة
استناداً إلى تجربة وحدة العافية النفسية في الدفاع المدني السوري، يمكن تقديم مجموعة من التوصيات لتعزيز الصحة النفسية في بيئات العمل، لا سيما في المؤسسات العاملة في ظروف صعبة مثل سوريا:
- تعزيز التوعية النفسية: يجب على المؤسسات تنظيم ورش عمل وحملات توعية دورية حول أهمية الصحة النفسية وكيفية التعامل مع الضغوطات.
- الدعم النفسي المستمر: توفير خدمات الدعم النفسي الفردي والجماعي بشكل منتظم للعاملين، مع متابعة الحالات النفسية بشكل دوري.
- تشجيع الأنشطة الرياضية والفنية: أظهرت التجربة أن الأنشطة البدنية والفنية تُعد وسائل فعالة في تخفيف الضغط وتعزيز الروح الجماعية.
- بناء بيئات عمل منصفة ومرنة وداعمة: يجب على المؤسسات أن تُبنى على أسس عادلة تحترم خصوصية وكرامة العاملين وتوفر لهم مساحات للتعبير عن مشاعرهم دون خوف من الحكم.
- العودة الآمنة للعمل: تقديم دعم إضافي للعاملين الذين يمرون بتجارب نفسية صعبة، لضمان عودتهم إلى العمل بشكل صحي ومستدام.
رسالة العافية النفسية في بيئة العمل
مع مرور عام على تأسيس وحدة العافية النفسية، أُثبت أن الصحة النفسية لا يمكن أن تكون خياراً، بل هي ضرورة حتمية لضمان استدامة بيئة العمل وعافية العاملين فيها، وفي مناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية هذا العام، نأمل أن تكون تجربة وحدة العافية في مؤسسة الدفاع المدني السوري دعوة لكل المؤسسات، سواء في سوريا أو في بيئات مشابهة، للاهتمام بشكل أكبر بالصحة النفسية للعاملين، وبناء بيئات عمل قائمة على التراحم والدعم المتبادل.
إن العافية النفسية هي نبض العمل، ومتى كانت بيئة العمل صحية ومستدامة، أزهرت بذور النجاح وأثمرت بمزيد من العطاء والإنجازات.
"