"أحمد" شاهد على مجزرة الكيماوي في مدينة دوما ومازالت روحه هائمة في أقبيتها

في 7 نيسان 2018 أكثر من 40 مدنياً اختنقوا حتى الموت بعد استهداف مروحيات النظام لمدينة دوما باسطوانات تحمل غازات سامة

"هل سمعتم يوماً بميت يقف على قدمين، وينطق كالأحياء، و يخاطبكم يا أيها الأحياء؟ هذا الميت هو أنا، وهذا ليس مجازاً، أن تسمع مشارق الأرض ومغاربها هذه الحكاية لا أراها سوى المهمة الأخيرة لي، وحينها فقط يلتحق هذا الجسد بالروح المتروكة الهائمة في أقبية دوما.

كان اسمي "أحمد" وحين انفجر السوريون توقاً إلى الحرية كان عمري 14عاماً، وشُكل وعيي من قيم الثورة، كنا نتنفس هذه القيم على طريقة المتمسكين بالحياة، البذل والتضحية والانعتاق والتحرر، وبعد 4 أعوام، وجدتُ هذه القيم مُلخصة بالدفاع المدني السوري، ومن غير تردد، انضممت إليه، ربما في اللاوعي، كنت أبحث عن أسرة، عائلة، فقدت معناها الكلاسيكي في الثورة، وصيِغت من جديد، وخصوصاً في غوطة دمشق المحاصرة حيث كنت، كل شيء كان مختلفاً عمّا خبره السوريين في مثل عمري قبل الثورة.

في مدينتي دوما التي قرأت عنها، لم أرَ منها سوى مدينة أشباح، قصف لا يهدأ، يتناوب عليه الطيران الحربي، وإن هدأ يتكفل بسماء المدينة قصف مدفعي وسواه مما حفلت به آلة الحرب لنظام الأسد وروسيا.

قد أتذكر من مدينتي أشياء كثيرة وأنسى أخرى لكن لم ولن أنسى منها ذاك اليوم، في 7 نيسان 2018 حين مُت لأول مرة، يومها كنا على موعد مع موت من نوع آخر، موت أنيق، لا دماء فيه ولا أشلاء.

خرجنا في الساعة السابعة ليلاً إلى منطقة استُهدفت بقصف مدفعي، وبُلّغنا بأن مروحيات نظام الأسد فوقنا، وقلنا هو موت بعضه فوق بعض، و واجبنا البقاء، طالما هناك أنين ناج يحتاج إلى انتشال وإسعاف، لم نكن نعرف ما تحمله تلك المروحيات.

ألقت المروحيات براميلها، كان شيئا مختلفاً، حين سقطت لم تُحدث الدمار الذي ألفناه، ولكن لا مجال للتفكير، فنحن مسعفون ولسنا محللين عسكريين، توجهنا بذات الشغف إلى المكان.

حينها ولأول مرة في حياتي، كان للموت رائحة، لن أنساها ما حييت، تجاهلت ذلك، لأن رائحة الدم كانت حتى ذلك الوقت هي الأكثر إيلاماً لروحي، ومضيت إلى رجل يصرخ، اللغة لا تسعفني بكلمة بديلة عن يصرخ، كانت روحه تصرخ، ارتج جسدي لصراخه، فعائلته بالكامل قد ماتوا أمامه.

صراخه جعل مني شخصا آخر، غلى الدم في رأسي، ودخلت البناء حيث كان يشير الرجل وكأن جسدي نهر يفيض لا يقف أمامه سد، كان أول ما رأيت أربع جثث أمام مدخل البناء، كانت الأفواه مليئة بزبد أبيض، نعم أبيض، وأنا الذي كنت أعتقد أن اللون الأحمر للدماء أكثر الألوان قسوة، لا اللون الأبيض كان أقسى، وكأن الكفن الذي يُلف به الموتى قد خرجت خيوطه من أفواههم.

لم أستوعب، ولم أتراجع، شيء ما جعلني أتقدم بخطى حثيثة، ثم نزلت درجات، وكأنني أنزل إلى قبري، هناك حيث مت ولم أعد، ألم أقل لكم أنا الميت الذي يتحدث كالأحياء!

حين وصلت، وجدت نساء، أطفال، رجال، بعضهم فوق بعض، هذه الكومة البشرية لم أر مثلها في أي قصف سابق، وبعدها فقدت الوعي، نزل زميل إلى المكان الذي كنت فيه، سحبني فوراً من داخل القبو، وأسعفني، وكانت مجرد لحظات تفصلني لأكون جسداً إضافياً فوق الأجساد التي لم تحظَ بزميل جاء في الوقت المناسب.

عندها فقط أصدرنا البلاغ الذي لا يُنسى عبر اللاسلكي، بأن القصف كان بالسلاح الكيميائي، وكان بلاغاً صادماً للجميع، وهنا لا الشجاعة ولا النخوة تكفي، نحتاج إجراءات إضافية.

استجمعت ما بقي عندي من قوة، وكنت قد استنشقت الرذاذ الطبي المطلوب، واغتسلت بالماء، وعدت إلى المكان الذي كدت أن أختنق فيه، ومع الزملاء ممن سبقني أو لحقته، أخلينا الأحياء المتأثرين بنسب متفاوتة من الغاز السام.

عشرات العائلات بالكامل ماتوا، ماتوا معاً، كعائلة واحدة، أب يحضن أطفاله، أم مكومة على رضيعها، رجال ونساء وأطفال، تكدس معظمهم في ممرات البيوت الضيقة، ربما حاولوا الهروب، وألف ربما لا أجد لها تعبيراً أو تفسيراً، ماذا اعتقدوا بما يحصل لهم، كيف فسروا الرائحة، الاختناق، ثم الموت، هل ماتت رضيعة وأمها تشاهدها؟ هل مات طفل أمام والده وكان والده عاجزا ثم لحقه؟ جثث وجثث، لكن يقيناً لهم أسماء وقصص، وتفاصيل حياة طويلة، أقسى محطاتها هي تلك اللحظات قبل موتهم.

انتشلنا في ذلك اليوم أكثر من أربعين جثة، أما من تأثر فأعدادهم تخطت المئات، لم نشفَ من هول الصدمة إلى صباح اليوم التالي، لكن إجرام النظام أبى إلا أن يكون كما اعتدناه حين استقبلنا بقصف عشوائي مجنون، ليجبر من نجا على التهجير قسراً من مدينة دوما.

ما زالت روحي مسكونة في تلك الأقبية مع من خنقهم الغاز السام، وما زال عقلي يسأل عن لحظاتهم الأخيرة، وما زلت حتى اليوم، وفي كل يوم، دون استثناء، إن نسيت في صحوي جاؤوا في منامي.

سأبقى كما قلت لكم، الميت الذي يتحدث كالأحياء، وسأظل أصدح بما رأيت، إلى أن يأتي القصاص العادل، وترتاح تلك الأرواح، وأحيا من جديد".