الدفاع المدني السوري في ذكرى تأسيسه السادسة...القصة كاملة
في 25 تشرين الأول عام 2014 انطلق الدفاع المدني السوري لمساعدة جميع السوريين بكل أطيافهم بحيادية وشفافية ودون أي تحيز
فرضت الظروف التي مرَّ بها السوريون مع بدء الحراك السلمي في عام 2011، تغيراً كبيراً في جميع مناحي الحياة، وكانت السمة الأبرز لتلك المرحلة هي الفراغ الحاصل بعدة مناحي هامة من حياة المدنيين نتيجة انسحاب الأجسام الحكومية الخدمية وغيرها بعملية ممنهجة من قبل النظام السوري، وفي أواخر عام 2012، بدأ النظام باستخدام القصف شكلاً من أشكال العقاب على الأحياء والمناطق التي انسحب منها، واقترن القصف الجوي والبري بسحب الخدمات التي تقدمها الدولة مثل الإطفاء والإسعاف في حالات الطوارئ وصيانة شبكات المياه والكهرباء، لتصبح حياة السوريين أشبه بالجحيم الحقيقي، قصف لا يتوقف وبنية تحتية مدمرة، وغياب أي جهة تساعد المدنيين أو تقدم لهم الخدمات الأساسية التي تساعدهم بمصاعب الحياة في ظروف الحرب و تبقيهم على قيد الحياة، وكانت الحاجة المتزايدة لسد الفراغ الحاصل، دافعاً للمجتمع المدني السوري للاصطفاف من جديد وتنظيم جهوده من أجل المدنيين ومساعدتهم في جميع الظروف دون تمييز.
كيف كانت البداية؟
نشأت عدة مبادرات مدنية مدفوعة بشغف إنجاح حلم التغيير الجذري الذي دعت إليه شعارات الحراك السلمي في سوريا، و لم يبدأ الدفاع المدني السوري بالصورة المنظمة التي هو عليها اليوم، إنما جاء نتاج طبيعي لتجمع العشرات من المبادرات التطوعية في مناطق مختلفة في جميع سوريا، وتجمع المئات من المتطوعين معاً، الذين كانوا من مختلف المشارب والاتجاهات والاختصاصات، بينهم المعلمون والمهندسون والنجارون والخياطون والتجار وأصحاب المهن الحرة، فعل هؤلاء المتطوعون ما بوسعهم لمساعدة مجتمعاتهم في الاستجابة لعمليات القصف وحالات الطوارئ الأخرى بدءاً من أحيائهم وجيرانهم، ولم يربط تلك الفرق أو المتطوعين أي رابط مؤسساتي بالصورة التي نراها اليوم، بل عمل الجميع في الحيز الجغرافي الموجود به دون أن يعرف حتى بالمجموعات التطوعية الأخرى التي كانت تعمل بالأحياء المجاورة، مدفوعا بهدف إنساني بحت، لاسيما أن تلك المرحلة كانت بدأت تظهر فيها ملامح الحصار كسلاح عقاب موجه ضد المدنيين، لم تقل بشاعة عن القصف وسحب الخدمات. أخذت نواة العمل في محافظة حلب منحى تنسيقي أكبر نظم عمل الفرق المستجيبة الأولى.
وكانت حادثة منع قوات النظام عام 2012 لأحد فرق الإطفاء في مدينة حلب من الاستجابة لحريق في حي سكني بحجة أنه خارج عن سيطرتها، البذرة الأولى للظهور بشكل علني لأول فريق مختص تحدوا قرار قيادتهم وذهبوا وأطفأوا الحريق، لقد كانت تلك نقطة تحول بالنسبة لمنير المصطفى (الذي أصبح لاحقاً نائب مدير الدفاع المدني) وأعضاء فريقه الآخرين، فقد كانوا يعلمون أنهم برفضهم لأوامر رؤسائهم قد صاروا أعداءً للنظام، وأن حياتهم أصبحت في خطر، وفي اليوم نفسه، أنشأوا مركزاً للاستجابة لحالات الطوارئ لخدمة جميع السوريين، بالرغم من قلة معداتهم، إلّا أنّ خبرتهم ومهاراتهم مكنتهم من الشروع في الاستجابة لعمليات القصف وإنقاذ حياة الناس العالقين تحت الأنقاض وهكذا كانت بذرة إنشاء أحد مراكز الدفاع المدني الأولى في محافظة حلب.
في المناطق السورية الأخرى لم يختلف الوضع كثيراً فالقصف والنزوح كان على أشده وحاجة السكان لفرق تساعدهم بات أمراً ملحاً، وهذا ما دفع رائد الصالح (والذي أصبح لاحقاً مدير الدفاع المدني) للمساعد في تأمين مأوى للنازحين داخليًا ونقل المدنيين المصابين لتلقي العلاج في تركيا، وسمع رائد عن التدريب الذي قُدِّم في مجال الدفاع المدني وحضر إحدى الدورات التدريبية الأولى المقدمة في تركيا في عام 2013، وأنشأ رائد أول مركز للدفاع المدني في محافظة إدلب في بلدة اليعقوبية غربي المحافظة.
وفي دمشق وريفها ودرعا وحمص كانت تسير على نفس الطريق مجموعة من المتطوعين الشباب يجتمعون وينشؤون مراكز للدفاع المدني لمساعدة السكان وإنقاذهم من تحت القصف بما يتوفر لديهم من معدات بسيطة ولكن كان أثرهم كبيراً وما قدموه كان جباراً في ظل الظروف على الأرض.
الانتقال للعمل كمؤسسة واحدة في 25 تشرين الأول 2014
بحلول عام 2013، بدأت أخبار أعمال الفرق المتطوعة بالانتشار، وسمعت هذه المجموعات ببعضها البعض لأول مرة، نتج عنها إنشاء قنوات اتصال للتنسيق بين الفرق وتبادل الموارد المحدودة، كما بدأت بعض الفرق في تلقي دورات تدريبية في أساليب البحث والإنقاذ من خبراء، وبهذه المرحلة ذاع صيت هذه المجموعات المتطوعة البطلة وعمل على دعمها العديد من المنظمات الدولية والمانحين الدوليين من خلال تقديم معدات الإنقاذ والإسعاف.
وفي عام 2014 بدأت مناقشة موضوع توحيد هذه الجهود بطريقة رسمية أكثر لتصير المنظمة منظمة واحدة تكرس عملها في إنقاذ حياة الناس في سوريا، وأثناء السعي للتنظيم والتنسيق بصورة أفضل، حاصرت قوات النظام عدة مناطق في سوريا وباتت معزولة عن بعضها بسبب تغيير خطوط السيطرة، ولم تتمكن الفرق الموجودة في الشمال من الوصول إلى تلك الموجودة في دمشق وريف دمشق وحمص ودرعا والقنيطرة.
وفي 25 تشرين الأول عام 2014، كان الاجتماع التأسيسي الأول في مدينة أضنة التركية، وحضره نحو 70 من قادة الفرق في سوريا، ووضع المجتمعون ميثاقاً للمبادئ الخاصة بالمنظمة لتعمل تحت القانون الإنساني الدولي، وتم الاتفاق على تأسيس مظلة وطنية لخدمة السوريين، وإطلاق اسم "الدفاع المدني السوري" عليها، وشعاره من الآية في القرآن الكريم، وهي: "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً"، لمساعدة جميع السوريين بكل أطيافهم بحيادية وشفافية ودون أي تحيز.
ومع بداية عام 2015، أطلق اسم "الخوذ البيضاء" على "الدفاع المدني السوري، بعد اشتهار الخوذ التي يرتديها المتطوعون أثناء عمليات البحث والإنقاذ، ووصل عدد المتطوعين عام 2017، إلى 4300 متطوع من بينهم 450 متطوعة.
مصادر التمويل
يحصل الدفاع المدني السوري على التمويل عبر عدة مصادر أهمها الحملات الشعبية والتمويل القادم من الدول والمؤسسات الإغاثية والإنسانية والأشخاص، إضافة للحملات الشعبية التي يتم من خلالها جمع تبرعات عبر الإنترنت، وهذا الجانب من التبرعات كان له دور مهم في تطوير عمل المنظمة، وفي حالات الطوارئ.
وتلقت منظمة الخوذ البيضاء تمويلاً من مؤسسات إنسانية وإغاثية مختلفة، منها الهلال الأحمر التركي، وهيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH)، ومن مؤسسة قطر الخيرية، وعدة مؤسسات خيرية تعمل في كندا وأوروبا.
وعلى صعيد التمويل من الدول لا يمانع الدفاع المدني السوري تلقي التمويل من أي دولة أو جهة، لكن دون أي إملاءات أو شروط سياسية، ومن بين الدول التي تمول الدفاع المدني السوري، كندا والدنمارك وبريطانيا والولايات المتحدة وهولندا وقطر وألمانيا، وفرنسا.
وفيما يخص التمويل الشخصي يتلقى الدفاع المدني السوري التمويل من أي شخص يريد أن يساعد السوريين، دون أن قيد أو شرط.
مناطق العمل
يسعى الدفاع المدني السوري لتقديم خدماته لكافة المدنيين وفي المناطق السورية كافة حيث يستطيع المتطوعون الوصول إليها دون وجود تهديد أو خطر على حياتهم، ومنذ التأسيس حتى عام 2018 قدم المتطوعون خدماتهم لأغلب المحافظات، ولكن بعد سيطرة النظام السوري على مناطق واسعة انحصر العمل في شمال غربي سوريا، ذلك بسبب التهديد المباشر للمتطوعين وسلامتهم الشخصية على كافة المستويات، ويقوم الآن نحو 3 آلاف متطوع بينهم 230 متطوعة، بمساعدة المدنيين في شمال غربي سوريا ويقدمون لهم ما يستطيعون من خدمات تساعد على الاستقرار.
أعمال الدفاع المدني السوري
يقوم الدفاع المدني السوري بعمليات البحث والإنقاذ، ويتجاوز عدد المدنيين الذين تم إنقاذهم بسبب قصف النظام وروسيا 122 ألف مدني، ويستجيب أيضاً للحوادث بأنواعها ويسعف المصابين، والتعامل مع الهجمات الكيماوية لحماية المدنيين، إضافة لخدمة الراصد والتي تحذر المدنيين من الهجمات الجوية وتساهم بإنقاذ أرواحهم.
لم تكن مهمة متطوعي الدفاع المدني فقط إنقاذ المدنيين من بين ركام قصف النظام وروسيا، فخلف خطوط الموت أو حتى بينها، يحتاج المدنيون لخدمات تبقيهم على قيد الحياة في ظل البنية التحتية التي باتت شبه مدمرة، ويسعى الدفاع المدني بما يتوفر من إمكانات للمساهمة بتأهيلها وصيانتها، والمشاركة في تقديم الخدمات، مثل إعادة الكهرباء والمياه والصرف الصحي، وإزالة جبال من ركام المنازل التي انهارت بسبب قصف النظام وحليفه الروسي، كما يقدم الدفاع المدني الخدمات للمدنيين المهجرين والنازحين عبر تجهيز المخيمات وفتح طرقات لها وفرش أرضياتها والمساعدة بتحسين بنيتها التحتية.
وعندما تنتشر الأمراض والأوبئة يهرع المتطوعين بكل إمكاناتهم لمواجهتها والحد من انتشار، عبر الإمكانات المتاحة والتوعية وتأمين التجهيزات الطبية والوقائية.
إزالة الذخائر الغير منفجرة:
تقوم كوادر مختصة بإزالة مخلفات الحرب والتخلص من الذخائر غير المنفجرة وتحديد أماكن وجودها، هو أحد أخطر الخدمات وأصعبها التي يقدمها الدفاع المدني السوري، تضم عدة نشاطات مختلفة منها المسح لتحديد المناطق الموبوءة وعمليات التوعية، وعمليات التخلص بشكل نهائيً من أخطارها ،وبدأت فرق الذخائر غير المنفجرة العمل على إزالة مخلفات الحرب في الدفاع المدني السوري بداية عام 2016 لمجابهة هذا التحدي الذي يهدد حياة آلاف المدنيين يومياً في ظل عدم وجود أي جهة تعمل في هذا المجال، وخلّف قصف النظام وحليفه الروسي آلاف الذخائر غير المنفجرة و تواصل الفرق المختصة بالدفاع المدني عملها لمسح أكبر عدد ممكن من المواقع وإزالتها وحماية المدنيين من المخاطر.
المراكز النسائية
تشكل المراكز النسائية في الدفاع المدني السوري ركيزة أساسية من عمل المنظمة الإنساني، وكانت الانطلاقة الأولى للمراكز النسائية في الشهر الأول من عام 2017، وصل عدد المراكز إلى 33 مركزاً نسائياً، موزعة على مناطق العمل في إدلب وأرياف حماة وحلب واللاذقية، وتعمل بها 230 متطوعة، تقدم مساعداتها لأهالي تلك المنطقة"، ويسعى حالياً الدفاع المدني لرفد الكوادر النسائية بأعداد إضافية من المتطوعات.
وتقدم المراكز مجموعة من الخدمات الأساسية، وهي الخدمات الطبية وحملات التوعية عن الأمن والسلامة للمدنيين في المناطق التي تتعرض للقصف، ودورات التمريض والتوعية الصحية للأهالي، شاركت المتطوعات في استقبال المهجرين من مناطق سوريا المختلفة، حيث عملن على مساعدتهم في الاستقرار وتقديم الخدمات المختلفة التي يحتاجونها بشكل عاجل.
التضحيات
كان عمل الدفاع المدني في إنقاذ الأرواح ومساعدة المدنيين الذين يتعرضون لقصف النظام وحليفه الروسي وتوثيقهم الهجمات، أهم الأسباب التي جعلتهم هدفاً للنظام وروسيا، عبر استهداف المراكز أو استهداف المتطوعين بغارات مزدوجة أثناء انقاذهم الأرواح، ويبلغ عدد المتطوعين الذين فقدهم الدفاع المدني منذ عام 2013 حتى الأن 287 متطوعاً، أغلبهم قتلوا بالاستهداف المباشر أو الغارات المزدوجة أثناء عملهم الإنساني.
ولم يقتصر هجوم النظام وروسيا على الجانب المادي بل تعداه بشن هجمات إعلامية ممنهجة وحملات تضليل إعلامي مهندسة من روسيا لاستهداف سمعة الدفاع المدني وتصوير متطوعيه كـ "إرهابيين" أو "عملاء للغرب" والهدف من هذه الهجمات الإعلامية هو تقويض مصداقية الأدلة التي جمعها عن بعض أبشع جرائم الحرب في القرن الحالي مثل الهجمات بالأسلحة الكيميائية على المدنيين أو قصف قافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة.
وقدمت روسيا هذه المزاعم مراراً وتكراراً، حتى أنها قدمتها في الأمم المتحدة، حيث رفضتها الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة رفضاً قاطعاً، ومع ذلك فإن معظم هذه الجهود تركز على الإنترنت حيث ثبت أن هنالك جيشاً من الذباب الإلكتروني البرمجي والبشري ينشر عمداً أدلة زائفة عن عمل الدفاع المدني، وتتناسب هذه الهجمات مع الاستراتيجية الروسية الشاملة التي تسعى لتقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية في جميع أنحاء العالم.
وعلى الرغم من هذه الهجمات العسكرية المباشرة أو الإعلامية إلا أنها لم تثبّط من معنويات المتطوعين، ولن تمنعهم من مواصلة عملهم الانساني وإنقاذ الأرواح وكشف الحقيقة والمطالبة بمحاسبة كل من ارتكب جرائم بحق السوريين وسيواصلون تقديم التضحيات دون أي تردد.
الجوائز والتكريم
كانت الخدمات والروح البطولية للدفاع المدني السوري محط إعجاب وتقدير في المحافل الدولية ما مكن الدفاع المدني السوري من إيصال صوت السوريين للعالم أجمع، ورُشح الدفاع المدني السوري منذ تأسيسه للعديد من الجوائز الدولية وحصل على أكثر من 20 جائزة قدمت من قبل العديد من المنظمات والمؤسسات الإنسانية الدولية حول العالم، وأهم تلك الترشيحات كان لجائزة نوبل لثلاثة أعوام متتالية، في عام 2015 و2016 و2017، ومن بين الجوائز التي حصل عليها جائزة الأوسكار عن فيلم "الخوذ البيضاء" على منصة نتفلكس وجائزة نوبل البديلة عام 2017، وجائزة السلام العالمي عام 2016، وغيرها من الجوائز.
الحلم والأمل
يحلم متطوعو الدفاع المدني السوري باليوم الذي ينتهي فيه عملهم في سحب الجثث من تحت ركام القصف وألا يروا الدماء والأشلاء للأبد، وأن يتحولوا لزراعة الأمل وتكريس جهودهم كلها لإعادة بناء سوريا، الوطن والمجتمع، والتي لا يمكن أن تنعم بسلام دائم إلا عندما يقدم جميع مرتكبي الهجمات ضد المدنيين إلى العدالة.
لن يتخلى الدفاع المدني عن التزامه تجاه المدنيين وتأمين الاستقرار لهم، ومواصلة العمل على تقديم الأدلة والشهادات حول جرائم الحرب إلى أن تصل كل أسرة سورية عانت من الظلم إلى العدالة وعندها فقط سيكون باب الأمل مفتوحا للتغلب على جروح الحرب والانتقال للعيش بسلام.